17‏/5‏/2012

أحاديث موريتانية: (II)


السَّيِّدْ حمدي يحظيه
الحديث الثاني: هجرة أحمد بابا مسكى إلى الصحراويين سنة 1975م
حين التحق أحمد بابا مسكى، المثقف والدبلوماسي الموريتاني المحنك، بكامل وعيه وإدراكه وقناعته بالصحراويين وبالبوليساريو سنة 1974م أو 1975م ثارت عاصفة كبيرة في موريتانيا لازال غبارها يحوم في الهواء إلى اليوم. فبمجرد إن التحق الرجل بالصحراويين، وهو الموريتاني الأصل والفصل والدبلوماسي، حتى تحول إلى ظاهرة. أصبحت بعض الدوائر المتحكمة في مفاصل موريتانيا الحاكمة آنذاك، موريتانيا المختار ولد داداه، تقول ظاهرة أحمد بابا مسكى، طفرة احمد بابا مسكى والبعض وصفه بالمرتزق، وآخرون بلغ بهم الشطط إلى وصفه بالمجنون. وزاد الطين بلة والعاصفة هياجا وتمردا إن الصحراويين استقبلوا الرجل بحفاوة ورحبوا به واحتضنوه وقلدوه، إذا لم تخني الذاكرة، منصبا في المكتب السياسي، ثاني أعلى هيئة سياسية عند الصحراويين آنذاك.
سنة 1978م، سنة الانقلاب على ولد داداه، خرج الرجل بصمت من مخيمات اللاجئين بعد إن كتب كتابا قيما عن الصحراويين بعنوان: البوليساريو، روح شعب" وذهب إلى سويسرا على ما أعتقد وبقى هناك. ورغم ذهابه عن الصحراويين وهم في أوج حربهم مع المحتل المغربي إلا أن أي منهم لم يلمه أو يذمه، فهم، كشعب عريق، فهموا ما الذي أتى بأحمد بابا مسكه ليقف إلى صفوفهم، وفهموا أيضا لماذا غادرهم بهذه البساطة. كل ما حدث( التحاق أحمد بابا بالصحراويين، نضاله معهم ومغادرته لهم) كان بسيطا جدا: اتفاق المغرب مع نظام ولد داداه لتقسيم الصحراء الغربية وشعبها اعتبره احمد بابا مسكة طعنة في ظهر البيظان وفي ظهر الموريتانيين، وحتى يقف ضد ذلك الفعل ويبين رفضه له وامتعاضه منه هاجر إلى الصحراويين يناضل معهم. وفعلا أظهرت الأيام صواب وسداد نظرة أحمد بابا مسكى: أنهزم نظام ولد داداه وعادت موريتانيا شقيقة للصحراويين كما كانت. حين انتهت الظروف التي قهرت باحمد بابا إلى الهجرة ( ظلم نظام ولد داداه، احتلال موريتانيا الداداهية لجزء من الصحراء الغربية) غادر الرجل الصحراويين وعاد إلى حياته العادية.
في الحقيقة، رغم أنني لا أعرف الآن ما يعمل أحمد بابا مسكه ولا حتى ما هو توجهه الحالي، ورغم مغادراته لخيام الصحراويين إلا أنني لم اسمع صحراويا أبدا يذكر أحمد بابا بسوء. هذه حقيقة للتاريخ. فلو كان أحمد بابا مسكى كان رحالة سياسي أو كان يحب الترحال في تيرس أو كان مرتزقا مثلما يقول خصومه في موريتانيا، كان بقى مع الصحراويين، وبكل تأكيد كان سيبقى دائما في منصب سامي أو سفير في دولة ما ويعيش حياة راقية.
إن لجوء أحمد بابا مكسى إلى الصحراويين بعد إحساسه بالخطر على نفسه وبلده ليس طفرة أو ظاهرة في تاريخ الموريتانيين والصحراويين. ليس أيضا ظاهرة تدعو التأمل والتفسير مثلما يحاول البعض أن يصبغها بذلك. أن ما فعل الرجل يدخل في سياق تاريخي متسلسل وعادي؛ فهو ليس أول موريتاني أو شرقي هاجر إلى الصحراء الغربية بسبب الخطر أو بسبب الأيمان بقضية. فتاريخ الموريتانيين والصحراويين حافل حتى الطفح بالهجرات بين البلدين. فمثلا حين احتلت فرنسا الجزء الشرقي من موريتانيا هاجر مجاهدو تلك المنطقة وعلى رأسهم الشيخ الجليل ماءلعينين وحطوا على خيام الصحراويين في الساقية الحمراء وفي تيرس وزمور واتحدوا معهم للجهاد ضد الفرنسيين، محتلي الديار الإسلامية. ورغم أن الشيخ ماءلعينيين قادم من موريتانيا إلا إن الصحراويين اقبلوا عليه بالتبجيل والتعظيم وأحاطوه بالرعاية الخاصة هو ومن جاء معه. ولم يكرموه فقط ويبجلوه ويحموه إنما طلبوا منه الاستقرار معهم وبينهم، فأصبح هو داعية الجهاد ولسان حاله في المنطقة كلها، وحوَّل الصحراء الغربية إلى مقر عملياته. الآن لا يوجد أي صحراوي ينكر الشيخ ماءلعينين أو ينكر أنه صحراوي، وبالمقابل يفتخر الموريتانيون أيضا أن الشيخ مالعينين منهم وولد في أرضهم وقاتل فيها.  فمنذ مجيء الشيخ مالعينين  إلى الصحراء الغربية واستقراره بها، أصبح الصحراويون يسمون كل من وفَدَ إليهم من موريتانيا، طالبا نجدتهم أو راغبا في الجهاد معهم أو في الاستقرار في أرضهم، بالمهاجر( مهاجرية جمع مهاجري مثلما يقول الشيوخ الصحراويون بالحسانية إلى الآن).
وحين لم يستطيع الفرنسيون الظفر بالشيخ مالعينين أو قتاله في الصحراء الغربية، لخوفهم من الهزيمة، طلبوا من الملك المغربي إن يستدرجه إلى المغرب حتى يوقعون به. وفعلا صدق الشيخ الجليل دعوة الملك المغربي " المسلم" وهاجر سنة 1909م من الساقية الحمراء هو ومن معه من المقاتلين والتلاميذ إلى المغرب طلبا للنجدة ضد الفرنسيين. لكن المشكلة أن الفرنسيين، بالتنسيق مع المخزن المغربي، أقاموا له كمينا في ضواحي تيزنيت وفتكوا بكل المهاجرين. إن خيانة الملك المغربي " المسلم" وعدم وفائه بعهده لجيش وأتباع الشيخ مالعينين هو الذي جعل أحد أولاده يتمرد على السلطان ويحتل مدينة مراكش بالقوة وينصب نفسه ملكا عليها.
   وفي تيزنيت توفى الشيخ ماء لعينين وحيدا معزولا محاصرا هو وزوجته ميمونة بعد إن تنكر له السلطان المغربي الذي وعده بالمعاونة والمساعدة ضد الفرنسيين.  
 إن التاريخ حافل بهذا النوع من الهجرات من موريتانيا إلى الصحراء الغربية أو العكس. فحتى لا نقول إن ما قام به الشيخ مالعينيين( هجرته إلى الصحراء مع الكثير من أتباعه وأقاربه واستقراره بها)  كان ظاهرة نذكر أمثلة أخرى حية حتى نقوي حجتنا "ونمتنوا عينينا" في صواب ما ذهبنا عليه في حديثنا عن الهجرة وقت الحاجة والخطر بين موريتانيا والصحراء الغربية. مثل آخر: هجرة أمير أدرار البطل سيد احمد ولد عيدة تدخل في نفس النطاق. حين داهم الفرنسيون حماه في ادرار ولم يجد أين يذهب قصد الصحراويين، وجعل من الصحراء الغربية معقله ومقر عملياته وسموه أمير المهاجرين، وقاتل معهم وقاتلوا معه حتى استشهد وهو يقود غزوة قادمة من الصحراء الغربية. مثل آخر: هجرة المجاهد وجاهة إلى تيرس للأحتماء بها وبأهلها والجهاد من أجلها. فالرجل ومن هاجر معه إلى الصحراء كان مؤمنا أن المكان الوحيد الذي من الممكن أن يحميه هو تيرس الغربية وأهلها، وفعلا قاتل قتال الأبطال حتى استشهد عند لروي بوكرن سنة 1924م على ما أظن.
مثال آخر حديث: حين أحكمت أسبانيا قبضتها على الصحراء الغربية بعد انتفاضة 1970 في الزملة، لجأ ( هاجر)الكثير من الصحراويين إلى موريتانيا، خاصة قادة الحركة الجنينية واستقروا بين الزويرات وانواذيبو، وهناك لموا شملهم ووحدوا صفوفهم وأسسوا جبهة البوليساريو لتقاتل ضد أسبانيا. لكن حين انقلب ولد داداه على التاريخ والجغرافيا وفعل ما فعل وحصل ما حصل هاجر الصحراويون إلى الجزائر ومعهم هاجر أحمد بابا مسكى.                      
إذن، هجرة احمد بابا مسكى إلى الصحراويين وإلى الصحراء الغربية تدخل في سياق تاريخي عادي لا يجب إن يثير أي تساؤلات أو أي اندهاش لاي كان. فالرجل هاجر ليناضل إلى جانب قضية عادلة وليقف ضد ظلم نظام بلده لبلد جار وشعب شقيق، وحين انتهى ذلك الظلم عاد إلى وطنه أو إلى حياته العادية.
الآن أو منذ مدة يحاول البعض من موريتانيا بالذات، خاصة بعض مثقفيها وفنانيها وساستها الهجرة، لكن، وخلافا لهجرة احمد بابا، ليس إلى الصحراء الغربية ولا إلى مضارب وخيام الصحراويين بل إلى الشمال وإلى المغرب بالذات، لكن مشكلة الطرفين – طرف المهاجرين وطرف المهَاجَر إليهم-  أنهم يعرفون تماما في أقفاص صدورهم انهم لن يتفاهموا وأن أي طرف من هؤلاء هاجر إلى الآخر وحاول إن يقلده " شاف أجلو". إن هجرة هؤلاء الذين ينتقد بعضهم هجرة احمد بابا مسكى يعرفون أنهم يهاجرون إلى المغرب ليس للدفاع عن مبادئ ولا عن أهداف سامية إنما من أجل كسب مادي رخيص، كسب أرخص تماما من أعقاب السجائر.         
*كاتب من الصحراء الغربية    
sidhamdi@yahoo.es
المقال القادم إن شاء الله: مع موريتانيا ضد الأطماع المغربية

3 التعليقات:

Hola, Sid...sigo todos tus articulos..y son muy buenos en todos los aspectos..linguistica...información...y estructura. Y desde tus inicios en escribir te he siguido..y admiro todo lo que cuentas y escribis..por ello ..te mando todas las gracias por seguir iluminando el camino para muchos y ser un ejemplo y un gran proyecto de un escritor celebre..que representa este pueblo.Me gustaria que mandaras los articulos. a mi correo electoronico...draimiz@yahoo.es.....Tahyati

موضوع في المستوى من كاتب كبير

ما لم أفهمه من مقال الكاتب هو تكراره لان احمد باب مسكه لم يذكره أحد بسوء فكيف برجل ترك وطنه وساند شعبا شقيقا ضد وطنه ان يكون أقصى مايطمح إليه من هذا الشعب هو ان لا يذكره بسوء

إرسال تعليق

 
electronic cigarette review