7‏/5‏/2012

أحاديث عن موريتانيا : (I)


السَّيدْ حمدي يحظيه *
   الحديث الأول: روح حضارة البيظان تتعرض للتشويه 
يحس البيظان في الصحراء الغربية وموريتانيا دائما، ومنذ القديم، بغيرة شديدة شبه غريزية للدفاع عن بعضهم البعض ضد أي شيء قد يمس، ولو همزا أو غمزا أو لمزا، ثقافتهم وحضارتهم وحدودهم الجغرافية والتاريخية المشتركة. ورغم أن الناس في البلدين ( الصحراء وموريتانيا) يتبادلون الاحترام ولا يتدخلون لا ماديا ولا معنويا في أي شان داخلي، حتى لو كان صغيرا، لبعضهم البعض، إلا أنهم، متى أُسئ إلى روح حضارتهم أو تاريخهم عموما من طرف قوى خارجية، أو حاول أحد ما جرح ذاكرتهم تنشط لديهم غريزة مشتركة غير محكم فيها للدفاع عن هويتهم و ثقافتهم وحضارتهم. فكلما أسيء إلى حضارة أو ثقافة أو سيادة البيظان في أي من البلدين إلا وتحول الموريتاني صحراوي والصحراوي موريتاني وخاضا، معا وبحماس شديد، معركة الدفاع المصيرية عن الحضارة والثقافة المشتركتين. 
في هذه الأيام مثلا يكثر جدل واسع موسع، واعي من جهة وغير واعي من جهة أخرى، حول أسماء مدن موريتانيا ومناطقها، وماذا يعني اسم كل شبر ومنطقة من أرضها الواسعة الشاسعة المترامية الأطراف والمناكب التي يتيه فيها السراب. إن موضوع البحث هذا يكون قد فجره ذلك الجدل الذي خرج على الملأ حول معنى اسم مدينة انواذيبو البربري . فاسم مدينة انواذيبو الكبيرة المشهورة الساحلية التي يعرفها الشرقي والغربي، يعني في اللغة البربرية، حسب أحد الباحثين الموريتانيين في التاريخ، " رأس كلب". 
وليت سيل الجدل كان قد توقف عند بطاح وكثبان( أغراد) انواذيبو فقط ولم يتعداها أو يتخطاها او تتم استباحته من طرف الكثيرين. أصبح الكثير من الناس –يمكن أن تقول وبعناد الغالبية -  بسبب الجدل المذكور، بدافع الفضول أحيانا وحبا منهم في معرفة ماذا تعني أسماء مدنهم ومناطقهم، خاصة التي تحمل أسماء قديمة بربرية أو أمازيغية، ينبشون في ذاكرات الشيوخ والكتب - حتى الصفراء منها-  ليعرفوا ماذا تعني " شنقيط،" وماذا تعني "نواقشوط" وماذا تعني فديرك إلخ. لقد بدأ الكثير - أو بالأحرى الجميع- يسأل عن معنى أسماء مدنهم وقراهم خشية منهم أن تكون أسماء بعضها مثل اسم " رأس الكلب" التي تداوله الناس خطأ. ما أكتبُ هنا لا يدخل في إطار الجدل المذكور ولا في إطار الرد لإن للأبل رب يحميها، ولموريتانيا من يدافع عنها أحسن من جميع الناس متى كان الأمر داخليا محضا، ثم إن الرد حتى يُسمى ويعتبر ردا هو مثل الحديد:  يجب أن يتم التعامل معه حاميا وساخنا. إنني أظن أن الأمر، بعد إن استفحل، لم يعد داخليا ولم يعد يخص موريتانيا وحدها إنما أصبح يخص البيظان كلهم لإنه ببساطة غير معقدة أصبح يعني أن هناك مَنْ( جهة خارجية )  يريد تشويه حضارة البيظان وتاريخهم خاصة الأسماء التي ترك لنا البربر والأمازيغ والتي هي ليست حكرا على موريتانيا وحدها. في هذه الحالة( الإحساس بخطر يهدد حضارتنا) تدفعنا الغريزة المشتركة، جميعا وبدون استثناء، إلى الدفاع عن حضارة وسيادة البيظان.           
إن الخوض في ماذا يعني اسم نواذيبو بالبربرية أو بالعربية أو الحسانية وهل يجب تغيره إذا كان فعلا – رغم التحفظ والشك- يعني اسم كلب أو تركه كما هو، أمر يخص الموريتانيين وحدهم دون "تدخل أجنبي خارجي"، إلا انه حسب اعتقادي وإيماني الشخصي، الموضوع تحركه خيوطه أيادي خارجية تريد النيل من موريتانيا وتحاول، مستغلة انشغال موريتانيا بما يحدث حولها، أن تصيبها هي وجميع البيظان في الصميم وفي ذاكرتهم وفي ضميرهم وثقافتهم. 
أظن أو- بتعبير آخر- مقتنع تماما أن اسم انواذيبو بالبربرية وما تداوله القوم حوله ليس صحيحا البتة، إنما يدخل في نطاق تشويه شامل مدروس لموريتانيا وثقافتها وشعبها وتاريخها ولثقافة البيظان عموما. ففي المغرب الأقصى مثلا يسخر الناس من الموريتانيين والصحراويين على حد سواء معتمدين على تشويه ثقافتهم وتاريخهم ولباسهم. هنا اضرب مثلا واحدا: كلمة "بيظان" مثلا التي يفتخر سكان الصحراء الغربية وموريتانيا بحملها يفسرها المغاربة تفسيرا موغلا في السخرية ويحورنها عن أصلها. إن كلمة بيضان( هكذا ينطقها المغاربة لإنهم، بسبب عوج خلقي في ألسنتهم، لا ينطقون حرف الظاء ولا حرف الذال) يقول المغاربة أن أصلها هو فرنسي وتتكون من كلمتينpie رِجْلْ وan حمار، أكرمكم الله وأعزكم، وبالتالي تصبح الكلمة، حسب التشويه المغربي المتعمد - ليس التفسير- ( pie d´an) ( رِجْلُ الحمار) . وليست هذه الكلمة هي وحدها التي يتم تحويرها إنما يكاد الأمر يكون شاملا خاصة إذا تعلق بالأسماء ذات الأصل البربري. فالذين لهم رغبة في الاكتشاف، خاصة الغريب والعجيب والمثير منه، تجمح أخيلتهم إلى السماء. إذن إذا "أقتنعنا" – هذا شبه مستحيل- أن كلمة نواذيبو تعني "رأس كلب" فعلينا أيضا أن نقتنع أن كلمة بيظان تعني ما ذهب إليه المغاربة، وكلمة نواقشوط تعني " نوق الشط" وكلمة "تمنطيط" التي يتندر الناس في موريتانيا أنها تتكون من كلمتين واحدة بربرية والأخرى تفرق الجماعة..
وإذا قبلنا نحن البيظان في الصحراء الغربية بما يحدث من تشويه للثقافة في موريتانيا وسكتنا عنه فإننا في اليوم الموالي قد نسمح بتشويه من يريد تشويه أسماء مدننا التي تحمل أمساء بربرية أو أمازيغية مثل زوغ أو اوسرد أو زمور او ايرني وتيرنيت، وبالتالي تنطلي علينا قصة أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض أو نُحِرت يوم نُحر الجمل الأبيض.    
ولا يتعلق الأمر فقط بأسماء المدن الموريتانية ذات الاسم البربري إنما يصل الجدل إلى اسم البلد ذاته. هل اسمه موريتانيا أم موريتان، وهل صحيح أن كلمة موريتان تعني أرض المور ( البيض ذوي البشرة الداكنة) موازاة مع السودان ( ارض السود ذوي البشرة الفاحمة).  إنه جدل عقيم وغير مبرر وبدل إن ينفع في شيء يمكن أن يحور النقاش الأصلي الذي كان يجب أن يدافع عن موريتانيا في وجه الخطر المغربي الذي يتزعمه بعض ديناصورات العهد البائد الذي يقولون أن موريتانيا أرض مغربية وأنها ليست دولة. 
إذن، كإستنتاج، لا يوجد على وجه الأرض من يستطيع- خاصة إذا كان عربيا- أن يقنعنا إن كلمة كذا بالبربرية تعني كذا بالعربية. هذا محال. لنأخذ مثلا الاسم البربري لمدينة انواذيبو الذي حدث حوله الجدل لندلل أن الكثير مما يقال عن معنى الأسماء بالبرية تنقصه الدقة ويلفظه المنطق في ابسط تجلياته.                                             
لا يوجد قاموس بربري عربي يمكن أن يلجأ إليه الباحث مهما كانت هويته حتى يقنع الناس أن الكلمة كذا تعني كذا بالعربية أو بالحسانية. 
من السخرية بمكان أن يسمي الموريتانيون، وسكان انواذيبو العقلاء بالتحديد، مدينة بهذا الكبر والحجم والتاريخ باسم "راس كلب." هل كان يجب على الموريتانيين الذين بنوا مدينة انواذيبو إن ينتظروا حتى القرن الواحد والعشرين حتى يكتشفوا أن اسم مدينتهم وعاصمتهم الاقتصادية يعني ما أصبح الناس يتداولونه في الشارع الآن.؟ إن الموريتانيين والبربر من قبلهم معروفين تاريخيا بحبهم للأسماء الجميلة والتغني والافتخار بها، ومعروفين أيضا بنفورهم من الأسماء الرخيصة التي لا تعني أي شيء، ومن النادر أن تجد موريتانياً ( شخص) يحمل اسما قبيحا. فمثلا تجد عندهم حماه الله، محمد سالم، أحمد بابا، وبالمقابل لن تجد عندهم من يحمل اسم علوش أو أخنوش. أسماء مدنهم أيضا تغلب عليها الجمالية واللمسة الشعرية وفيها الكثير من الجاذبية ونكتفي بذكر تفرغ زينة، النعمة، الزويرات، أطار. 
إن نبش "راس الكلب" هذه الآن وبقدر ما يسئ لاسم المدينة يسئ إلى سكانها أكثر، وجاء في سياق سياسي مدروس يريد النيل من موريتانيا وحضارتها وإعادتها إلى وضعها في الخمسينات والستينات حين كان المغرب يريد ابتلاعها. . هل افتقد الموريتانيون البداهة والحذق والنباهة وتركوا مدينتهم تئن تحت هذا الاسم كل هذا الزمن ولم يبدلوه إذا كان فعلا يعني ما يتداوله الناس الآن. أليس الذين سبقوا وعاشوا في القرون الماضية يعرفون البربرية أكثر من الحاليين؟ إذن لو كان الاسم يعني ما يتداول الناس الآن( راس كلب) لكان السابقون الأكثر غيرة على بلدهم ومدينتهم حذفوه وبدلوه تبديلا ولم يصل إلى الحاليين. 
وإذا كان الإسم المنسي بالبربرية يعني رأس كلب فماذا يعني اسمها الحالي العربي\ الحساني( انواذيبو). هل يعني أيضا ما يتداول بعض الناس في الشارع وفي المغرب خاصة ( نوى ذئبه)؛ أي هرب ذئبه. إن مثل هذه التفسيرات للأسماء البربرية تحمل الكثير من الشكوك وتحتاج إلى الكثير من البحث حتى يتم نزع عنها الزائد والسوقي.     
إن من الحكمة في محاولتنا تفسير التاريخ والموروث الثقافي، خاصة البربري والامازيغي- إذا كان هاك فرق-  عدم الانسياق وراء ما هو سطحي وغث وترك العميق والسمين. إن استنطاق الموروث الثقافي والحضارة في الحاضر يحتاج إلى الكثير من التروي والدراسة، ومتى كان الدارس غير متحكم في أدواته وفي عقله يمكن أن ينزلق ويسقط.    


*كاتب من الصحراء الغربية  
sidhamdi@yahoo.es 
المقال القادم ان شاء الله: هجرة احمدا بابا مسكى إلى الصحراويين سنة 1975م

2 التعليقات:

في الحقيقة الموضوع شيق,ويمكن ان يفتح افاقا للنقاش اكثر اتساعا وعمقاليشمل مواضيع تتعلق بسوسيولوجيا مجتمع البيظان.الا ان الملاحظ على المقال انه لم يلامس المطلوب من العنوان مع البقاء داخل دائرة مغلقة لم يستطع الخروج منها للارتقاء بالموضوع الى مراحل ارقى من التعمق.من جهة اخرى اعتقد ان طوبوغرافيا المكان المقصود تحمل في غالبيتها اسماء امازيغية و البقية القليلة اسماء عربية,وذلك لاسباب تاريخية معلومة.ان الامر هنا لايغير شيئامن الحقائق الموجودة على الارض.اذ الامر يكاد ينطبق على كل دول المغرب الكبير,لكن مايثير نهم النقاش هو البحث في اصول قبائل البيظان و اصول اسمائها.فهل يا ترى ,يعلم صاحب المقال ان الاغلبية الساحقة من البيظان هم في الاصل امازيغ؟لكن ذلك لا يعني انهم مغاربةاو جزائريون ,بل بيظان متميزون عن البلدين.

1. لو اعتمدت قراءة انثربولجية، تاريخية وثقافية، لكنت أغنيت مقالك حول موضوع التسمية الأمازيغية لمدينة أنواذيبو، التي افترض الكاتب الموريتاني الدكتور حماه الله ولد السالم انها تعني "رأس الكلب"، وهو افتراض متسرع كان لصاحبه غرض لم يخفيه؛ حيث اعتمد الموروث الإغريقي ليؤكد لنفسه "نزوعا ذئبيا" يفتخر به، متناسيا ما لحمولة "الذئب من سلبية في موروثنا البيظاني، تتنافى و ما يفتخر به، وطبعا منح إحالات سلبية للكلب، حيث استغل التسمية لمهاجمة " أهل لساحل"، ويكاد يخصص ـ دون حياء أهل الصحراء منهم تحديدا"، وهو ما سيتضح بشكل فج في رده الوقح على أمد بابا مسكة.
2. تمحور كل الحديث عن عبارة "رأس الكلب" أخلت بالمقال الذي توقعنا أن يطوف بطقوس و ملامح جميلة تميز البيظان. وهكذا جاء المقال قاصرا عن الرد على تحامل الكاتب الموريتاني "المغربي الهوى"، وبعيدا عن أن يكون مقالا جمع أزهاره من حدائق البيظان الغناء.
3. أرجو أن يحالفك التوفيق في مقالك المخصص للدكتور أحمد بابا مسكة، وتلك لعمري، مهمة جسيمة أشفق عليك من أن تمر عليها بنفس العجلة التي طبعت مقالك هذا.
مع تمنياتي لك بالتوفيق.

إرسال تعليق

 
electronic cigarette review