13‏/6‏/2012

النقد بين المبدأ وخصوصية الظرف


محمد لبات مصطفى
بعد أن أحدثت الشبكة العنكبوتية، ثورة كبيرة في عالم الاتصالات، و أثبتت قدرتها على  تخطي الحدود، وسرعتها الفائقة في الوصول إلى أكبر عدد من القراء. وأصبحت مصدرا رئيسيا للمعلومات والأخبار. أصبح معها بمقدور من يشاء، بيسر وسهولة، ليس فقط الإسهام في إيصال صوته، ورأيه لجمهور واسع من الناس. بل كذلك إعمال الكثير من حقوقه، في كل ما يرتبط بالشأن العام، الذي هو شأن العامة، وخاصة : حق حرية التعبير، وحق المشاركة في السياسات العامة للمجتمع والدولة ، ككشف الفساد، وترهل المؤسسات، ومراقبة التسيير، ومساءلة المسيرين ونقد أداءهم ان أساؤوا.
 مناسبة هذا الكلام، هي الرغبة في المساهمة في تسليط الضوء، على بعض التساؤلات، التي يثيرها بعضا من الصحراويين ـ على مختلف المستويات ـ من حين لآخر، حول حقيقة الاستفادة الايجابية من هامش الحرية الذي أتاحته بعض المنابر الوطنية الحرة، والتهم الملتصقة بها، ولعل أقلها: المبالغة في جلد الذات، واثارة روح التشاؤم، وتعمد نشر الغسيل للخارج .
تحت مسميات عديدة..ومنها الغيرة على المصلحة الوطنية، وبذرائع مختلفة.. لا يُخفي بعضا من القائمين على الشأن العام اليوم، وفقا لرؤياهم الشخصية، ضيقهم الشديد مِنْ كل مَنْ ينتقد سياساتهم بالقول أو الكتابة أوالتصوير أو الكاريكاتور أو التنكيت، وسائر وسائل التعبير المتاحة.
نحن نتكلم عن النقد البناء الذي تنحصر أهدافه، في الرفع من درجة التأهب والتنبّه واليقظة الشعبية المدركة لخطر لاحتلال الدائم.. ومقاصد ذلك النقد هي العودة للأصول بما تعنيه من اعادة بعث واستنهاض الروح التنظيمية، ومحاربة التسيب الذي تسبب في تبديد أرصدة التنظيم: المعنوية والمادية.
نقد موضوعي ، يريد منه أصحابه ـ برقابة ذاتية ـ التنبيه لخطر الفساد ومعالمه ومظالمه، والعمل على تماسك الهيئات، وانسجامها، وضبـط أوضاعها، ودفع اطاراتها بالتمسك بمبادئ التنظيم السياسي..وقيم التآخي النضالية..والنظم  الداخلية.. والوعي بحجم المسؤوليات، وتقدير الواجبات، والتمسك بالسلوكيات التنظيمية الأصيلة التي أطًرًت على الدوام علاقات القمة بالقاعدة.
تَبَيًنَ ان لدى بعضا من السلطات الوطنية حساسية شديدة من هكذا طرح ـ لايستصيغه اطارهم الفكري ـ حين ذهبوا بعيدا في المغالاة في استثنائية الظرف والتذرع بخصوصيته، إلى حيث لا يعلم أحدا، أين هي فعلا الخصوصيات؟ وأين هي العموميات؟. أين هو الواقع والقبول بمفاهيم العصر؟ وأين هو الخيال والاصرار على التمسك بالماضى وسياساته وأشخاصه؟ أين هي الحدود الفاصلة بين القضية والأشخاص الذين يستغلون شرعيتها وقدسيتها كمظلة لتحقيق مآربهم الخاصة؟.
صحيح واقعنا صعب، وظروفنا شاقة، وجدا استثنائية. حيث لا توجد خيمة أو بيت على امتداد جغرافية الوطن، وفي مناطق انتشار الصحراويين كافة. الا وما زال الحزن يسيطر عليها لاختطاف اب.. أواعتقال أم.. أو اغتيال شقيق. وشعبنا يتعرض لحرب نفسية من طرف أجهزة دعاية عدو متمرس في رسم سياسات التلفيق والتزوير و" اشلاوش" والكذب والبهتان..وطبيعي ان يستغل ما ينشر هنا وهناك، والذي ليس كل ما فيه إيجابيا بالضرورة.
في السنوات الأخيرة، تضاعف علينا هبوب رياح عاتية من السموم المهلكة، من أقلام توسعية، وأخرى شوفينية، عنصرية، أوخائنة مرتشية. وأيضا من أفواه حاقدة، قاحلة لا تحوي سوى الأشواك والجفاف والسموم. وفيها من الكذب والافتراء والتزوير والعهر السياسي الكثير.. وفيها من  النفخ في بوق التفرقة، والتحريض على ضرب مقومات الوحدة الوطنية، ما لا يعد ولا يحصى.. وفيها من الإصرار على إسقاط المشروع الوطني، ومحاولة زرع روح الانكسار المعنوي في أوساط شعبنا، الكثير..وفيها من الخيانة المستفزة لعقول الصحراويين من جانب ـ للأسف ـ بعضا من حملة الهوية الوطنية الكثير..وفيها من خيانة أمانة الكلمة، والقلم الذي اعزه الله بسورة في القرآن الكريم الكثير الكثير الكثير.
لكن اللافت للنظر أيضا ان اﻟﺒﻌﺾ ـ تنظيرًا وممارسة ـ ﯾﺮﯾﺪ ﺗﻤﯿﯿﻊ ﺧﺼﻮﺻﯿﺗﻨﺎ.. ويسعى الى خلط الأوراق، ومحاصرة الناس في دائرة اتهامات ضيقة، وكبح الاجتهادات واعاقة تعزيز وتوسيع نطاق القناعات الشعبية، والتستر تحت شعار " ابكينا ف اسواقانا".. والتحجج (بخصوصية الظرف) ليقول ان الظرفية ليست ملائمة بعد، للجهر بنقد السياسات، والامعان في جلد الذات..ونشر الغسيل للخارج..الى غير ذلك من قائمة الأوصاف التي يعج بها قاموس كثرة من المتصلحين ومرتاحي البال..)باش جات غزات( المستفيدين من تمييع "خصوصية الظرف".
هذا الرأي، وان كان تحت تأثير هواجس القلق الدائم على مسار القضية، كونه قد يتقاطع مع أجندات العدو، فان فيه مبالغة غير مبررة، ومثل هذا الطرح، يكشف أيضا منطق الوصاية على الرأي العام الوطني الصحراوي. وفيه محاولة لكم الأفواه. ومنع ممارسة النقد والنقد الذاتي، الذي هو مبدأ من مبادئ جبهة البوليساريو. التي لقنت مناضليها فيما سبق انه من حقّهم جميعا، بل من حق كل الصحراويين، انتقاد سلطاتهم، حين يتدنى لديهم الشعور بأمانة المسؤولية، أو حين تتغير عندهم القناعات والمفاهيم.. أو حين يجنحون الى تعزيزالفردية والاستبداد.. وهم الذين قدموا أنفسهم راغبين لخدمة الشعب، وتكفّلوا طائعين في تسخير أنفسهم وجهدهم ووقتهم لخدمة جماهيرهم وقضية شعبهم.
في قاموس الجبهة وتقاليدها، تعتبر المسؤولية، تكليفا وليست تشريفا، وبالتالي يعتبر تقييم حصائل وإنجازات، وانحرافات وإخفاقات الاطارات، وكسر كلّ الطابوهات، ليس فقط حقا، بل واجبا أيضا تقتضيه المصلحة العامة، والسقف الوحيد هو الالتزام بالقضية الوطنية والانتصار لها، والاحترام المطلق للثوابت الوطنية: ـ الجبهة الشعبية حاضنة الكفاح والشرعية : بمبادئها ومنطلقاتها ـ مظلة الوحدة الوطنية : بمضمونها وأهدافها ـ حق شعبنا الثابت في الحرية والاستقلال على كامل ترابه الوطني ـ تمجيد مآثر جيش التحرير الشعبي الصحراوي المقاتل ـ واجب الوفاء لأمجاد شهداء الشعب، والمفقودين، والمعتقلين، وكل من ترك بصمته، بهذا القدر أو ذاك، على طريق استقلال الشعب الصحراوي وحريته.
لقد كانت البوليساريو رائدة في تدعيم الرقابة الشعبية على الأداة )الأطر (من خلال عدة وسائط ذات تأئير نضالي ضاغط، من بينها اضافة الى مبدأ النقد والنقد الذاتي، صحيفة رأي الجماهير، التي كانت تعنى بممارسة الرقابة على الأطر، وتجعل أعمالهم باستمرار تحت النظر الدائم للرأي العام الوطني. كما كان لمؤتمر عموم الولايات السنوي.. والندوات والملتقيات الوطنية، وبعض النشرات الداخلية ذات التوزيع المحدود أدورا متفاوتة في معالجة متطلبات النضال، و"ردع" اطارات الدولة والتنظيم.
كما ساهم لقاء الأطر )1976( الذي أشرف عليه مفجر الثورة الشهيد الولي مصطفى السيد في وضع اللبنات الأولى لضوابط الممارسة القيادية، بشكل يضمن التعاطي بين القمة والقاعدة، وفق نموذج شفاف أساسه المحاسبة والتقشف والمثالية، وتقدم الصفوف، حتى يظل القائد دائما مصدرا للإبداع والتميز، ويتصدر المشهد بطلائعيته ومصداقية وعلمه وفكره من أجل التحرير والتغيير والتقدم.. وليبقى فعل القائد منضبطا مع الثقة والصفة التي حازها.
وفي نفس الاجتماع الذي اصطلح على تسميته في أدبيات الجبهة بلقاء الأطر، حذر معلن الدولة الصحراوية من احتمال خطر انتهازية سلطاتها وقياداتها. ودعا الى ضرورة هز الكوادر، حين تركب على ظهر الشعب.. أو تستغل النفوذ والسلطة.. أو تحتكر المغانم.. أو"تأكل" المكاسب..أو تفرط فيها ..أو تتركها تضيع.. نتيجة للعجز.. أو نتيجة لميولات جديدة عند الاطارات.. ) المحاضرات مسجلة بالصوت وموجودة في ارتشيفات الجبهة (.
هذا التأكيد على شرعية نقد القيادات.. وهزها عند اللزوم، على لسان مفجر الثورة، الغرض منه ان يدرك الجميع ان الزعامة في الجبهة تقوم على أساس: التضحية و الإيمان المطلق بالقضية، وقدرة الأطر على الإلهام و تحريك الجماهير ليس الا. ومعناه: ان الجبهة مدرسة للتضحية والنضال، من اجل الوطن ومن يعيش عليه من مواطنين، وليست ينبوعا للانتهازية.. والمحاصصة القبلية.. واالزبونية.. والسعي للجاه وتجميع الاموال؟ ومعناه كذلك : ان المسؤولين معرضون دون استثناء للنقد حين يُخلون بواجب المهمة العامة التي انتدبوا اليها. ففي ثقافة الجبهة لا تمجيد ولا قداسة لحي يرزق. ) الشهداء هم وحدهم من أدوا الواجب (.  ومن لا يتحمل النقد ويتقبله بروح رياضية.. يفترض فيه أن لا يتبوأ موقعاً تنظيميا يدير من خلاله شؤون المواطنين؟ اذ ليس هناك أي إنسان في هذا العالم المترامي الأطراف غير معرض للنقد والمساءلة، وبلادنا لا يمكن أن تكون "استثناءا" وتختلف عن بقية دول العالم في هذا المجال.
جميعنا يدرك انه كلما ازداد المدح والإطراء ، تقلص هامش الرأي والرأي الآخر، وتوسعت مظلة المحظورات، وأصبح مبدأ النقد والنقد الذاتي بمثابة الجريمة و"خيانة الوطن" و" التواطؤ مع أعدائه". وسيكون دور النخب ووسائط الاعلام الوطنية غش الجماهير إذا اقتصر هذا الدور على المبالغة في ترويج الخطاب الاحتفالي والانتصاري )خطاب الارتياح المغشوش(. وكيل المديح لمن بيدهم السلطة في حين يقتصر اللوم على المواطن حين يطالب بنظام أكثر مؤسّساتيّة في إدارة شؤون المجتمع، أو حين يجهر ببعض الحقائق التي تعاكس ادعاءات بعض المسؤولين، أو حين يندد ببعض الممارسات المعيبة )فضائح( لبعض من تولوا أمره.
ان ما نلاحظه اليوم من ارتفاع نسبي لسقف الكلام ، وتزايد رسائل الاحتجاجات خارج "صندوق البريد" سببه ذلك الخلل الكبير المتعلق بمصداقية الاطارات )بدون تعميم( فمنهم من جعل الوزن القيادي مؤجلاً وممنوعاً من الصرف؟ ومنهم من عرَض القضية لمخاطر كادت أن تعصف بمجمل المسار الوطني.. ومنهم المؤلفة قلوبهم الذين يحتاجون الى اعادة انتاج الوازع الوطني لديهم.. ومنهم من ما كان ليكون لهم "أدوار قيادية" لولا "التوازنات " واستعداداتهم التي تناسبت وبرنامج "خصوصية المرحلة"..
لسنا هنا في مقام الاساءة أو الاحراج لأحد، وما ينبغي لنا، كما اننا لسنا بصدد أن نبخس أحدا حقه أو ننكر عطاءه. أو دوره المشهود، وجهده الغير منكور في مسيرة الشعب الصحراوي الطويلة على طريق  الحرية والاستقلال. فالتاريخ لن يضيع حقا أو حقيقة لأحد.. لكن ظروف اشتداد الخطر على قضيتنا ، تضطرنا ان نظل نصرخ، ونكتب، ونسعى لعل وعسى.
هناك عدد من الأشياء التي لا بد أن تقال جهرا ، ومنها ان الوزارات الفائضة عن الحاجة جعلت منطق الدولة وامتيازات وحصانة الوزراء هي الغالبة، وهي المقدمة على ما عداها في جدول الأعمال السياسي. وعليه فإذا اردنا مكافحة الفساد وزجر ولجم نوازع المفسدين وﺘﻤﻜﻴﻦ اﻟﻨﺎس ﻣﻦ ﻋﺮض ﺷﻜﻮاهم اﻟﻤﺘﻌﻠﻘﺔ بالمحسوبية والزبونية، وغيرها من اﻟﻤﻌﺎﻣﻠات ﻏﻴﺮ اﻟﻌﺎدﻟﺔ. فالطريق واضح : صحافة حرة وقضاء مستقل بإﺟﺮاءات ﻓﻌﺎﻟﺔ وسرﻳﻌﺔ وﻋﺎدﻟﺔ.. تنشر الأحكام وتلزم الإدارات العمومية بالجواب على تظلمات المواطنين. وهذا ـ عكس ادعاءات كثيرين ـ سيظل مطلوبا، وظروف الاحتلال، لا تعيقه، ولا تستدعي تأجيله، بل تجعله أكثر إلحاحًا وراهنية. ومن شأنه أن يزيد قوة المجتمع في كنف وحدة وطنية مضمونة تمتلك ما يكفي من المضادات لدرء عدوى الانتهازية والخيانة. ومواجهة التحديات التي يأتي في مقدمتها الاحتلال وبطشه. 
المجد والخلود للشهداء والخزي والعار للأعداء

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
electronic cigarette review