10‏/7‏/2012

رأسمال الثورة الثابت و المتغير


فضالي اعلي بويا
يقول تشي غيفارا: “الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن. ولايهمني أين ومتى سأموت بقدر ما يهمني أن يبقى الوطن و الثوار يملؤون العالم ضجيجاً كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء."
 الثورة كمصطلح سياسي يطلق على حركة وطنية ترفض السلطة الحاكمة وتعمل على إسقاطها، أو على حركة مقاومة ضد مستعمر إستعبد العباد و افسد في البلاد، إغتصب الأرض و استباح الأعراض، مثل الثورة الجزائرية (1954-1962). وثورتنا المجيدة التي مزجت بين ثنائية الكفاح السلمي و المسلح. وقد تكون حركة شعبية اجتماعية اقتصادية محضة تحركها دوافع كالجوع والفقر والفساد ترفض الإستمرار في هكذا واقع، كالثورة الفرنسية 1789 وثورات أوروبا الشرقية 1989 وثورة أوكرانيا المعروفة بالثورة البرتقالية نوفمبر 2004. أو عسكرية وهي التي تسمى انقلابا مثل الانقلابات التي سادت أمريكا اللاتينية في حقبتي الخمسينيات و الستينات من القرن العشرين.
والثورة كذالك هي الخروج عن الوضع الراهن وتغييره سواء إلى وضع أفضل أو اسوأ بإندفاع يحركه عدم الرضا و التطلع إلى الأفضل، أو حتى الغضب.
و الفهم المعاصر والاكثر حداثةً للثورة هو التغيير الذي يحدثه الشعب من خلال أدواته كالقوة المسلحة و المظاهرات السلمية أو من خلال شخصيات تاريخية كارزماتية قادرة على نشر أفكارها و إقناع الاخر. 
إن المتتبع و الدارس لمسار عديد الثورات التي مرت بها البشرية بدءاً بالثورة المصرية القديمة خلال اخر فترات حكم الاسرة السادسة و الملك " بيبي الثاني" و التى يعتبرها المؤرخون من اقدم الثورات،و ثورة الملك "أوركا جينا" في بلاد الرافدين،  مروراً بالثورة البريطانية 1689 و التي عرفت بالثورة المجيدة،الثورة الأمريكية 1763،الثورة الفرنسية 1789، ثورة أكتوبر في روسيا 1917 و ثورات حركات التحرير ضد الإستعمار، وصولاً الى الثورات المسماة ب (الربيع العربي) حديثا و التي لا زالت اطوارها و تداعياتها تطهى على نار هادئة لا يعرف مآلاتها و تأثيراتها إلا الله ـ سبحانه ـ .
يجد إن هذه الثورات كانت و لاتزال رأسمالها و محركها الأساس و ضامن إستمراريتها هو العنصر البشري الثائر ضد الظلم و الإضطهاد مهما كلفه ذالك من تضحيات في سبيل نيل مبتغاه في التحرر و الإنعتاق من سطوة الظلام و المستبدين الذين يخدمون مصالحهم و لا يراعون بؤس شعوبهم، من أولائك المجبولين على الطمع و الجشع و حب الإستحواذ و التوسع على حساب الاخر. 
رأسمال الثورة و وقودها هم الجماهير القادرين على الإبداع في اساليب النضال و صنع المعجزات و إماطة الصعوبات ، المؤمنين كل الإيمان بقضيتهم ذوو النفس الطويلة مهما كانت الطريق شاقة و مريرة، القادرين على توظيف طاقاتهم الذاتية للتحرر من الواقع المرفوض و إستثمار مكاسبهم في خدمة مَعْلم الثورة لا إحتوائها و التناحر و التسابق ـ إن صح التعبير ـ للظفر بها و إستهلاكها في مجالات ضيقة شخصية و كأنها غنيمة وجب تقاسمها.
و يكمن ايضا رأسمالها لا محالة في القائد و المنظر و الإطار الكارزماتي ملهم الجماهير و موحدها على أساس فكري عميق لا على أساس الإنتماء الإجتماعي الطبقي أو القبلي، ذو الجاذبية الكبيرة و الحضور الطاغي و القادر على التأثير في الاخرين و الإرتباط بهم فكرياً ثقافياً و عاطفياً. صاحب أفق واسعة و طاقة متجددة و فكر نير و نظرة مستقبلية تحليلية ثاقبة، لا يسقط امام النكسات و لا يقنع بالإنتصارات المرحلية و لا يرضى بغير إحراز هدفه الذي عاهد عليه رفاق دربه و شعبه أو الموت دونه ، هو خادم الشعب الذي  يسعى دوماً لحل المشاكل لا لتراكمها، و الاكيد أنه ليس ذاك المتنطع المتبجح القانع بالفتات المعرفي،  الفار من متطلبات القاعدة التى لطالما حملته على سواعدها النحيلة و وهبته تلك المكانة بعرق جباها و دم أبنائها لتكلفه لا لتشرفه لان الشرف و المكانة العليا هما فقط لأولائك الذين بذلوا بحياتهم و صخروا شبابهم وشيبهم وكل ما يملكون إبتغاء التحرر من عنجهية وشوفينية المتسلطين. والقائد كذالك هو المؤمن بالنقد كمبدأ و يراه بعين النصيحة و تصحيح الأخطاء و العيوب سوى في شخص الإطار ـ بصفته بشر ـ أو أدائه و إدارته للأمور، و لا يراه من باب الضغينة و النكاية فيه أو تتبع أثره، ألم يقل احدهم:" أحب إخواني من أهدى إلي عيوبي". و هو المنصت و المتواصل ـ أي القائد ـ مع جميع اطياف شعبه، لا المنغلق فقط على بطانة ربما الف إطراءها و تعظيمها له،ينظر بعيونها و يسمع بأذانها، غالبا ما تهدي له لوحة غاية في الجمال عن واقع ربما كان متعفن  لايدرك بهائه غير الإنتهازين و لا يتصور إلا في أذهانهم المتخلفة القاصرة عن فهم معنى ان تكون قائد، اقول لهؤلاء لكم العبرة في سيرة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ للإستفادة لا للمقارنة طبعاـ و سوف تدركون كم كان الرجل عظيما، أليس هو القائل:(إذا رأيتم فَّي إعوجاجا فقوموني، فقام رجل وقال لعمر: و الله لو رأينا فيك إعوجاجا لقومناك بسيوفنا،....).
و رأسمال الثورة أيضا هو المبادي و الأفكار و القناعات المغروسة في أذهان الثوار المرتويين بها حتى الثمالة لا يزحزحهم عنها سوى بلوغ غايتهم أو إستنشاق  الشهادة. و مكملها هي السياسات و البرامج الهادفة لتغذية شرايين الثورة ـ مهما طالت ـ بضخ دم متجدد فيها للحفاظ على ديمومتها و مواكبتها للأوضاع الطارئة الداخلية و الخارجية  برؤية إستشفائية مستقبلية لا دونية آنية ، تضمن تنمية الموارد البشرية بإعتبارها رمز أساسي في معادلة الثورة  من خلال التعليم و التكوين و الإدماج و جعله يعيش الأشياء من داخلها و النهوض به من غياهب التخلف وظلمات الجهل الى فساحة العلم، و تكرس التواصل و التناوب في أبهى صوره  على حمل مشعل الثورة لتبليغ الرسالة للأجيال، فالثورة ثورة أجيال و ليست مقصورة على جيل بعينه فهي أبدية بأهدافها و مبادئها لا ظرفية تنتهي بنهاية مفجريها، و ذالك سر نجاحها. 
إن مناسبة هذه الخربشات أو خلفيتها و بيت القصيد فيها ليس تقديم الدروس و المواعظ، بل أردت أن اصنع مقارنة أو مقاربة بين ما سبق و أن ذكرته عن الثابت في رأسمال الثورة ـ و الأكيد أنها وجهة نظر نسبية سطحية جداـ و بين المتغير في نهج و واقع ثورتنا الحبيبة في ظل المستجدات و الأحداث الداخلية و الخارجية التى شهدتها الساحة الدولية و كان لها التاثير المباشر و غير المباشر على ديناميكية و سيرورة قطار الثورة. فما اوجه هذه المقاربة؟
منذ إنطلاق الشرارة الأولى، سارعت الجبهة الى حشد أكبر عدد ممكن من المناضلين و تعبئتهم  و تأطيرهم و تنظيمهم ، لقناعتها بجلل العنصر البشري، بإعتباره الركيزة الأساسية ـ اللب ـ في عملية التحرير و البناء، رغم القلة العددية و الذي كان لزاما علينا تعويضها بالنوعية، و هذا ما كان جليا في فكر مفجر الثورة الشهيد الولي مصطفى السيد ـ رحمه الله ـ حيث قال في لقائه التاريخي مع الأطر أبريل1976 " نحن شعب يجب عليه أن يعوض قلته العددية بنوعيته و تفوقه ". فعمدت الجبهة الى إقرار سياسات و برامج من قبيل إجبارية التعليم و برامج محو الأمية و الحملات التثقيفية  و التكوين المهني و غيرها و أرفقتها بإجراءات صارمة، و استنفرت لذالك كل ما لديها من إمكانيات رغم شُحها و عوزها. فشُيدت المؤسسات و المدارس و المعاهد و أُرسل ببعثات الى الخارج من التلاميذ و الطلبة. و كان الحصاد  اكبر و الزبدة أوفر، إطارات و كوادر وطنية مثقفة مشْبعة بأفكار الثورة و مؤمنة بمبادئها، و إستطعنا بإرادة و عزيمة أن نصنع من لاشيء كل شيء.  كما كرست ـ اعني الجبهة ـ منذ البداية ثقافة النقد بصفته المصفأة التي لا محيد عن المرور عليها و أدرجته في صياغ أدبياتها و مبادئها السامية " مبدأ النقد و النقد الذاتي". إنه الزمن الجميل بحق. فهل حافظنا على هذه المكاسب؟
بالطبع لا، ـ إن لم أخط في الإجابة ـ فرويداً رويداً بدءا ترمومتر الثورة بالإنخفاض و صارت أغلب مكتسباتنا ـ للإنصاف ـ خسارة. فعمَّ التسرب المدرسي و أنتشر وكان العنوان الرئيس في العملية التربوية و تدنى مستوى التلميذ و المعلم الى أدنى درجاته لعدة عوامل الكل يعرفها و إضمحلت كل الإجراءات الرادعة للظاهرة ودفنت في رفوف المكاتب ـ في أحسن أحوالها ـ و حل محلها مصطلحات من قبيل العمل على، البحث عن...، ضرورة... و إيلاء عناية ب ...، و أيام دراسية و ندوات ـ للإستهلاك الإعلامي ـ تكلفتها المادية أكبر من محتواها، و أستبدلت المؤسسات التربوية بالشوارع و الأسواق ( لمرس) وأصبحت كفيلة من لا كفيل له، و أختل معيار أو ميزان التمْييز عندنا و أصبح في الممتلكات بدل الملَكات ـ و المسؤلية هنا تقع على عاتق الجبهة كتنظيم و الأسرة كمربي و شريك أساسي ـ و تحولت البرامج الصيفية التثقيفية و برامج محو الأمية الهادفة الى ترسيخ فكر الثورة و تحفيز العنصر الصحراوي، الى جامعات صيفيية   " للأطر" لغرض الإستجمام و الإصطياف و النزهة أكثر منها للإستفادة، فكانت البديل  للذين لم يسعفهم الحظ في الظفر بالإيجار في جارتنا تندوف و الهرب من لهيب الصيف و شمسه الحارقة و لو مؤقتاً ـ رب ضارة نافعة ـ. و باتت البرامج و السياسات  منوط بها ملء البطون لتكميم الافواه، بدل إشباع العقول لبلورة الأفكارـ من له فكرة له في كل شيء عبرة ـ و الرقي بالفرد وبناء شخصيته على قواعد متينة، فغلبت ذهنية المادة و أصبحت هي السيدة و الخلفية الأولى لأي فعل أو قول أو عمل على حساب المبادي التي قايضتها الأجيال الصاعدة بقشور الحضارة الغربية من هواتف نقالة و بلوتوث و مرسيدس...، و إستبدلنا الذي وهو أدنى بالذي هو خير، فالفرار الى العدو شهامة تقام له الولائم بعدما كان خيانة، و نهب المال العام بطولة و فخر يُتسابق إليه و يُتغنى به وهو جريمة معاقب عليها و الائحة طويلة.
 إنعكس هذا الواقع على الإطارات فهم أقسام، عِلِّيين من القوم اغلبهم في نعيم و عن القضية ساهون وبمصالحهم منشغلون و بآهات شعبهم لا يُبالون، قال عنهم الشهيد الولي ـ رحمه الله ـ أنهم يتخذوا الصبغة الإنتهازية و يركبوا على الجماهير و يستغلوا مكاسبها ثم يختبؤون ورائها،و البقية منهم و هم نفر قليل يحاولون تدبيب الأمورـ عسى و لعل ـ مصدومون ينتظرون الغريب المخلص أو غدٍ يذيب عنهم هموم القضية ـ وربما الى الأبد ـ . و متوسطين وهم صنفين، إما مهاجر تائه بين حقول الراخوي تتقاذفه سياسات التقشف المتتالية أو مشروع مهاجر ينتظر دوره على متن قارب الجولات الصيفية، و إما مسكين صابر و قانع بالواقع مغلوب على أمره يكتوي بنار الأسعار المرتفعة و متطلبات الحياة المتزايدة، ينتظر ترقية طال إنتظارها لعلها تواسيه في حاله، ترقية إختلطت معاييرها الأولوية فيها لأصحاب المكانة الإجتماعية و المصلحة ثم الأداء و المثابرة و العطاء النضالي ـ إلى اَبْقَالْهُمْ شي ـ . و القاسم المشترك بين هذين الصنفين الاخيرين هو البحث عن لقمة عيش يسدون بها أفواه عائلاتهم و يسكتون بها غرغرة أمعائهم . 
هكذا و في برهة من الزمن تحولت مكتساباتنا  الى خسارة و فرطنا في رأسمال ثورتنا ـ للأسف الشديد ـ و بقينا مشدوهين بأمجاد ماضينا وأهملنا حاضرنا سر بقائنا.
أعذروني لكنها الحقيقة التي نتجرعها يوميا على صينية الشاي أنيسَتِنا في زمن الرداءة دونما دراية. فإلى أين نحن ماضون يا ترى؟

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
electronic cigarette review