يزعجني فيك التخفي المقصود وراء ذريعة أنه ( ليس بالإمكان أبدع مما كان ) ، وهذا ما يدفعك للاستقواء علينا بتملكك امتياز الانحياز للكائن والسكون لهاجس الريبة من الفعل المجابه للعبث والمقارع للفراغ والباحث في المضامين مركزا على الإمكانية المتجددة للخلق والإبداع .
ويزعجني فيك أكثر أنك وأنت تدافعين عن هذا التخفي البرغماتي تركبين صهوة جواد النصح والإرشاد وما يعني ذلك من ضرورة طلبنا الصفح والغفران درءا للنزاعات التي قد تؤدي إلى المهالك . وبدلا من سلوك هذا الطريق المأساوي والذي لا يمنحك قدرة ( امتلاك زمام مبادرتك ولا رؤية بوضوح درب حريتك )، بقدر ما يتيح لك الركون للايدولوجيا السائدة حيث يسود منطق التبرير لا التحليل والغموض والتمويه لا الدقة والتركيز والأنكى أن تصوري الأزمات حلولا ...
كما أننا لم ( ننطلق وليس بيننا اختلاف ) وأبرز اختلافاتنا مفهوم الالتزام الذي يعني لك أنه لا جدوى من طرح سؤال لماذا تأخرنا في بلوغ الحل ؟ لأنه سؤال ( مخيف بل هو منكس للهامة ومقوض للعزيمة ) في وقت اعتبرته حتى وأنا خلف قضبان السجن سؤالا جوهريا ، لأن المناضل ومن خلال هذه المحنة ( محنة الاعتقال ) باعتبارها وضعية قصوى يعيش تجربة الالتزام وفاء للحقيقة وتمسكا بالمبدأ وصونا للحق . فالالتزام يا صديقتي ليس ( نظرة الملل ) ولا ( امتداح المرآة للمرأة المتجملة أمامها ) انه سعي لمنح الذات تفردا واستقلالية تتأكد باتخاذها موقفا نقديا تجاه قضايا مجتمعه ومشاركة فعالة في صنع مستقبل مشرق وبالتالي منح حياته معنى . إن الإنسان يا صديقتي لا يكون إلا ما صنعت يداه ، أو بمعنى آخر الإنسان هو نتيجة لأفعاله . هكذا فالالتزام لدي ليس مديحا، ولا أقبله صدى ، لأني لست ببغاء ، الالتزام أمر حيوي لأن مطلب الثورة والتحرير لا ينفصل عن الالتزام الذي يعني ضرورة التنبيه للمخاطر وإجلاء الغموض وتحطيم اليقينيات الجاهزة وكل أشكال التردد .
تمنيت لو أن الكتابة إليك فعلا ( تفسح لك حرية دخول الحلبة ) لأن الالتزام أيضا هو الاشتراك في الصراع السياسي والاجتماعي لحماية الحرية ولو في شؤوننا اليومية . وتمنيت لو أن الكتابة اليك تفتح لديك أبواب ممارسة السياسة بجرأة تضعك بعيدا عن هذه النخب المحبة للنظام وللضوابط والتي تركن إلى صمت مخزي في مواجهة كراهية معلنة للفكر الحر وحقد واضح لخطاب الرفض ولحجج التاريخ وسعي حثيث لمحو الذاكرة .
كان بإمكانك أيضا الترفع عن إقحامنا في هذه المقايضة بين ( القوة الخفية ) و( الهشاشة الظاهرة ) فلم أكتب إليك يوما مشككا في قدرات الشعب وفي إرادته ، بل كاتبتك دوما انطلاقا من أن الالتزام هو إيمان أن المسؤولية هي تحقيق لإنسانية الإنسان ، وان الإنسان مسؤول عن نفسه وعن الآخرين في نفس الوقت ، فمسؤوليته ذاتية وجماعية ولذلك فهي تستوجب الدفاع عن الحرية والحق في الانتصار للفكرة ، وعليه وانطلاقا مما سبق أعتبر المقاومة- كفعل إرادي ضد القهر والظلم والاستبداد والاستعباد وأيضا ضد الانحراف والتحريف والتزوير والتزييف والتسلط وعدم تحمل المسؤولية والتبرير والتسويغ والمحاباة ...- اعتبر المقاومة انتصار للحياة ووفاء للحقيقة وتحمل للمسؤولية أمام التاريخ وأمام المستقبل .
يخيفك سؤال لماذا تأخرنا عن بلوغ الحل ؟ ويخيفني أن يتحول الإنسان من منبع للإبداع يؤمن بالاختلاف والحوار ينبذ التعصب القبلي ويحارب تمركز السلطة ومراكمة الأخطاء إلى حارس للشهرة والمنفعة والسلطة والجاه ومقابر وأد الكفاءات والطاقات ودهاليز لإخفاء التضحيات . ويتحول الوفاء للحقيقة كما شيدها الشهداء منبعا للحرية والكرامة الإنسانيتين إلى اتهام ( بالتغريد خارج السرب ) .
من الغرور يا صديقتي ادعاءك امتلاك ( كل المفاتيح ) فهل يكفي تذكيرك أن المعرفة تبدأ من السؤال وليس شرطا الحصول على جواب فقد يظل السؤال معلقا وبدون جواب . ومادمت تخافين سؤالا بعينه فكيف تستطيعين بلوغ سواحل كلها أسئلة وأسئلة مقلقة تتعلق بالحال في ظل وصنع ثقافي متهالك وبين المآل المحكوم بأحلام كثيرة في طور الانكسار .
0 التعليقات:
إرسال تعليق